الأحد، 22 مارس 2009

سلسلة أمهات المؤمنين //الجزء الثالث : عائشة بنت الصديق رضي الله عنها-4




نكمل سيرة أمنا عائشة العطرة المليئة بالعبر والفوائد الجميلة

و الرائعة

~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~

المبرأة من السماء :

كان مسروق إذا حدّث عن عائشة يقول : (( حدثتني الصديقة بنت

الصديق حبيبة حبيب الله المبرأة من السماء )) .

فما هي قصة براءتها من السماء ؟ تلك القصة التي شهدتها المدينة

التي دخلها الإيمان قبل أي مكان , ولكنها رغم ذلك كانت تحوي

بعض المنافقين الذين يترأسهم عدوُّ الله عبدالله بن أبي بن سلول ,

الذي تولى الإفك والإفتراء على السيدة الطاهرة المطهرة , زوج

خير خلق الله فقد أراد بهذا أن يشين الى الرسول صلى الله عليه

وسلم والى الدين الحنيف , وأ، يثأر لنفسه ولجماعته , حيث لم يعد

لهم صوت ولا حياة بعد دخول الناس أفواجاً الى الاسلام , وقد كان

ينتهز هذا المنافق الفرصة تلو الفرصة ليفسد المدينة ويملأها

بالأحقاد والضغائن والصراعات , فهو القائل بكل غرور وتكبر : (

لئن رجعنا الى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ منها الأذلّ ) وكان يستغل كل

سانحة ليعُرِّض بالكلام على الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين .

ولما بلغ عبدالله بن عبدالله بن سلول ما يفعل والده وعلم أن الرسول

يريد قتله ذهب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له :

-يا رسول الله , بلغني أنك تريد قتل عبدالله بن أُبيّ , فإن كنت فاعلاً

فمرني به فأنا أحمل اليك رأسه , فوالله لقد علمت الخزرج ما كان

هناك رجل أبر بأبيه مني , وإني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله ,

فال تدعني نفسي أن أنظر الى قاتل أبي يمشي في الناس فأقتله ,

فأقتل مؤمناً بكافر فأدخل النار , فقال صلى الله عليه وسلم : بل نرفق

به , ونحسن صحبته ما بقي معنا .

ولم يلبث الجيش الإسلامي أن رجع من غزوة بني المصطلق فظهر

حقد عبدالله بن أُبَيّ بن سلول مرة أخرى , كأشد ما يكون حين انتهك

لسانُه حرمة زوج رسول الله وقذفها في عرضها , وهي الصديقة

بنت الصديق .

قالت عائشة - رضي الله عنها - : فقدمنا المدينة , فاشتكيت شهراً (

مرضت ) , والناس يفيضون في قول أهل الإفك ولا أشعر بشي من

ذلك , ويريبني في وجعي اني لا أعرف من رسول الله صلى الله

عليه وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي , إنما يدخل علي ,

فيسلم , ثم يقول :

-كيف تيكم ؟ (( أي كيف حالكم ))

فترد عليه , ثم يتركها ويخرج فلما رجع اليها استأذنته في الخروج

الى أهلها حتى تشفى من سقمها فأذن لها .. وقبل ذهابها خرجت الى

المناصع (( أماكن قضاء الحاجة آنذاك )) مع أم مسطح بن أثاثة

فبينما هي تمشي إذ عثرت أم مسطح في ثوبها فقالت :

-تعس مسطح .

فقلت لها : بئس ما قلت .. أتسبين رجلاً شهد بدراً ؟!

فقالت : أي هنتاه أولم تسمعي ما قال ؟

قلت : وما ذاك ؟

فلما روت لها ما حدث منه ومن غيره في الخوض بشأنها , رجعت

وهي لا تدري أين تضع قدميها , ثم بكت بكاءً مرًّا , وأمست لا يرقأ

لها دمع , ودخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم ثم قال :

كيف تيكم ؟

فقلت : أتأذن لي أن آتي أبويَّ ؟ وأنا حينئذ أريد أن أستيقن الخبر من

قِبَلهما فأذن لي , فقلت :

-يا أمتاه , ما يتحدث الناس ؟

قالت : يا بنية , هوني عليك , فوالله لقلّما كانت امرأة قط وضيئة عند

رجل يحبها ولها ضرائر إلا كثَّرن عليها .

-سبحان الله , ولقد تحدثت الناس بهذا ؟!

فبكيت تلك الليلة لا يرقأ لي دمع , ولا أكتحل بنوم , ثم أصبحت

أبكي , ثم استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض نفر على

زوجه , وذلك حين استلبث الوحي (( يعني أبطأ )) , فقال له علي

رضي الله عنه :

-يا رسول الله لم يضِّيق الله عليك , , والنساء سواها كثير , وان تسأل

الجارية تصدقك .

وكان يقصد جارية عائشة , فجاءته فلما سألها عنها قالت :

-والذي بعثك بالحق ما رأيت عليها أمراً أغمصه (( أنقده )) عليها

أكثر من أنها جارية حديثة السن (( كان عمرها 12 – 13 سنة فقط

)) تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن (( صغير المعز )) فتأكله .

ثم سأل رسول الله صلى اله عليه وسلم أسامة بن زيد – رضي الله

عنهما – فقال له :

-يا رسول الله , أهلك وما نعلم الا خيراً .

ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس فاستعذرهم من

عبدالله بن أُبيٍّ وقال على المنبر :

-يا معشر المسلمين , من يعذُرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل

بيتي ؟ فو الله ما علمت على أهلي إلا خيراً , وقد ذكروا رجلاً ما

علمت عليه الا خيراً , وما كان يدخل على أهلي الا معي ؟

وكان صلى الله عليه وسلم يقصد صفوان بن المعطل السلمي , ذلك

أن الجيش حين كان في طريق العودة , وقف قليلاً فذهبت عائشة

تقضي حاجتها فلما قضت شأنها رجعت الى رحلها , ولكناه وجدت

عقدها قد انقطه فذهبت تلتمسه , وحبسها ابتغاؤه , وأقبل الرهط الذين

كانوا يرحلون لها فاحتملوا هودجها فرحلوه على بعيرها الذي كانت

تركب .. وتركوها .. ولنترك عائشة رضي الله عنها تروي لنا ما

حدث :

-فرحلوه على بعيري الذي كنت ركبت وهم يحسبون أني فيه , وكان

النساء إذ ذاك خفاقاً لم يثقلهن اللحم (( فلم يستنكر القوم خفة هودجها

))

وكنت جارية حديثة السن ’ فبعثوا الجمل وساروا فوجدت عقدي بعد

ما استمر الجيش , فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب , فأمّمت

منزلي الذي كنت به , فظننت أنهم سيفقدوني فيرجعون اليّ , فبينما

أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فتمت , وكان صفوان بن المعطل

من وراء الجيش فأدلج فأصبح عند منزلي فرأى سواد انسان نائم ,

فأتاني فعرفني حين رآني , وكان يراني قبل الحجاب , فاستيقظت

باسترجاعه حين عرفني فخمَّرت وجهي بجلبابي .

والله ما كلمني كلمة , ولا سمعت كلمه غير استرجاعه (( قوله انا لله

وانا اليه راجعون )) حتى أناخ راحلته , فوطئ على يديها فركبتها ,

فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعدما نزلوا موغرين في

نحر الظهيرة , فهلك من هلك , وكان الذي تولى الإفك عبدالله بن

أبي بن سلول .

وممن خاض فيه مع ابن أبي بن سلول مسطح بن أثاثة , وحسان بن

ثابت , وحمنة بنت جحش أخت زينب بنت جحش زوج النبي صلى

الله عليه وسلم , ثم قام الرسول صلى الله عليه وسلم من عند الناس .

قالت عائشة : فأصبح أبواي عندي , وقد بكيت ليلتين ويوماً لا

أكتحل بنوم , ولا يرقأ لي دمع , حتى ظننت أن البكاء فالق كبدي ,

فبينما هما جالسان عندي , وأن أبكي , استأذنت عليَّ امراة من

الأنصار , فأذنت لها , فجلست تبكي معي , فبينما نحن على ذلك

دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم , ثم جلس , ولم

يجلس عندي منذ قيل ما قيل , قالت : فتشهد , ثم قال : أما بعد , يا

عائشة , فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا , فإن كنت بريئة , فسيبرئك الله ,

وإن كنت ألممت بذنب , فاستغفري الله , وتوبي اليه فإن العبد , إذا

اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه .

فلما قضى مقالته قلص دمعي حتى ما احس منه قطرة , فقلت لأبي :

أجب رسول الله فيما قال , قال : والله ما ادري ما اقول لرسول الله

صلى الله عليه وسلم , فقلت لأمي : أجيبي رسول الله صلى الله عليه

وسلم , قالت : ما أدري ما اقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم .

فلما لم يجيباه تشهدت فحمدت الله وأثنيت عليه بما هو أهله , ثم قلت :

أما بعد , فو الله لئن قلت لم أفعل – والله عز وجل يشهد اني

لصادقة – ما ذاك بنافعي عندكم , تكلمتم به وأشربته قلوبكم , وإن

قلت : إني فعلت – والله يعلم أني لم أفعل – لتقولن قد باءت به على

نفسها , وإني والله ما أجد لي ولكم مثلاً – والتمست اسم يعقوب فلم

أقدر عليه – إلا أبا يوسف حين قال :

(( فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون )) ثم تحولت

فاضطجعت على فراشي , وانا أعلم أني بريئة , وأن الله يبرئني

ببراءتي , ولكن والله ما ظننت أن الله ينزل في شأني وحياً يتلى ,

ولشأني كان في نفسي أحقر من أن يتكلم اله فيَّ بأمر يتلى , ولكني

كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا

يبرئني الله بها .

قالت : فو الله , ما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم , ولا خرج أحد

من أهل البيت , حتى نزل عليه الوحي ,

فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء , حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان

من العرق , وهو في يوم شاتٍ . من ثقل القول الذي ينزل عليه ,

فلما سري عنه وهو يضحك كان أول كلمة تكلم بها :

-أبشري يا عائشة , قد أنزل الله براءتك .

وعلم المسلمون ببراءة عائشة من كتاب الله في آية سورة النور : ((

إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير

لكم لكل امرئٍ منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كِبْرَه منهم له

عذاب عظيم ))

ثم أقيم حد القذف – ثمانون جلدة – على الذين صرحوا به وهم

مسطح وحسان وحمنة .

ثم تابوا بعد ذلك , وقد قال حسان في ذلك شعراً يمتدح فيه عائشة

ويعتذر اليها :

حَصَانٌ رَزَانٌ ما تَزِنُّ بريبةٍ .. وتصبح غرثى من لحوم الغوافل

إلى أن قال :

مهذبة قد طيب الله خِيَمَهَا .. وطهرها من كل سوء وباطل

ثم أراد أبو بكر أن يقطع نفقته التي كان يجريها على مسطح لافترائه

على ابنته , فأنزل الله تعالى قوله في سورة النور : (( ولا يأتل

أولوا الفضل منكم والسَّعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين

والمهاجرين في سبيل الله ولْيَعفوا ولْيَصفحوا ألا تحبّون أن يغفر الله

لكم والله غفور رحيم ))

لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في ابتلاء شديد , فبعيداً عنها

كان يعاني مثل الذي تعانيه , قلبه يحدثه أنها ضحية اتهام ظالم ,

وأذناه تصغيان الى الشائعات المرجفة بالسوء .

وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد سأل عنها في أثناء المحنة زوجه

زينب – أخت حمنة – فقال لها :

-يا زينب , ماذا علمتِ أو رأيتِ ؟

-يا رسول الله , أحمي سمعي وبصري ؟ ما علمت الا خيراً .

وكانت زينب تداني عائشة في المكانة عند رسول الله صلى الله عليه

وسلم ولكن الله عصمها بالورع , وحفظتها لها عائشة في نفسها .

إن في حادثة الإفك ما يعلمنا الكثير عن حفظ اللسان عن انتهاك

الأعراض , والتلذذ بقذف الأبرياء , قطعاً للوقت وشغلاً للفراغ .

لقد علَّم الله المؤمنين التورع من نقل الباطل , وإشاعة الفاحشة بين

المؤمنين فقال تعالى : ((لولا إذ سمعتموه ظنَّ المؤمنون والمؤمنات

بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين ))

إن حسن الظن يجب أن يكون متغلغلاً داخل النفوس حتى يسلم

المجتمع من سهام الحقد ونبال الكفرة والمارقين , ومن هان عليه

والحديث فقذف بكلمات لا يلقي لها بالاً هوت به في نار جهنم , تفتت

أكباداً , وتوجع قلوباً , وتقذف أبرياء , وتدمي نفوساً , وتشتت أسراً ,

وتفرق الشمل , قال أبو أيوب الأنصاري لامرأته :

-أكنت فاعلة ذلك يا أم أيوب ؟

-لا والله ما كنت لأفعله .

-فعائشة والله خير منك .

وبعد .. فهذه هي قصة الإفك على وجهها الصحيح , ولا يعدو ذلك

إلا الباطل , وقد أنزل الله في هذه القصة قرآناً يتلى ثلاث عشرة آية

في سورة النور .

يتبع...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

Template by:
Free Blog Templates